
شهد المجتمع العربي الإسلامي عبر التاريخ أزمنة من القوة والتماسك، إلا أن العقود الأخيرة حملت معهَا تراجعًا حادًا في الوحدة والعزة، بفعل المؤامرات الخارجية، والتدخلات الغربية، وعلى رأسها أمريكا وما يسمى بإسرائيل وأوروبا، إلى جانب الانقسامات الداخلية والصراعات السياسية والطائفية.
لقد سعى أعداء الأمة إلى تفكيكها من خلال دعم الأنظمة المستبدة، وإثارة النزاعات، وشنّ حروب فكرية وإعلامية تستهدف طمس الهوية العربية والإسلامية، فضلًا عن إضعاف الاقتصاد والسيطرة على الموارد، كما تخلّى بعض أبناء الأمة عن القيم الأصيلة، مما أدى إلى فقدان روح النخوة والكرامة التي كانت تحرك الجيوش لنصرة المستضعفين، كما كان الحال قديمًا عندما كانت صرخة امرأة مسلمة كفيلة بإطلاق حملات عسكرية لإعادة العزة للأمة.
وفي ظل الأوضاع الراهنة، تتجلى الكارثة الإنسانية الكبرى في غزة، حيث تتعرض للدمار والحصار، وتواجه حملة إبادة مستمرة، وسط عجز المجتمع الدولي وتخاذل بعض الأنظمة العربية، آلاف الشهداء والمشردين، وبنية تحتية منهارة، بينما تستمر آلة الحرب في استهداف كل ما تبقى من حياة.
إن استعادة عزة الأمة لن تتحقق إلا بالوعي بالمخاطر المحدقة بها، والتمسك بقيمها، والعمل على تعزيز وحدتها، وإحياء روح النخوة والكرامة، حتى تعود الأمة إلى مجدها السابق، قادرة على الدفاع عن نفسها ونصرة مستضعفيها، بدلًا من البقاء رهينة لمخططات الأعداء وغفلة الأبناء.
مخططات الأعداء: حرب بلا سلاح
لم تكن الحروب العسكرية وحدها هي الوسيلة التي استخدمها أعداء الأمة لتدميرها، بل سعت القوى الغربية، وعلى رأسها أمريكا وما يسمى بإسرائيل وأوروبا، إلى استخدام أساليب أكثر خبثًا وأشد فتكًا، عبر الحرب الفكرية والثقافية والاقتصادية.
- زرع الفتن والانقسامات
لم يكن الاستعمار العسكري هو الحل الأمثل بالنسبة للأعداء، فالتجربة أثبتت أن الاحتلال يُوَلِّد المقاومة، لذلك لجؤوا إلى أسلوب أكثر تأثيرًا، وهو تقسيم الأمة من الداخل، عبر إثارة النزاعات الطائفية والعرقية والمذهبية، وتشجيع الحروب الأهلية، وتغذية الصراعات بين الشعوب والحكومات، حتى أصبح العربى عدوًا لأخيه العربى، وبدلًا من أن تتوحد الأمة ضد عدوها الحقيقي، صارت تُستنزف في صراعات داخلية لا تنتهي. - دعم الأنظمة المستبدة
لم يكن هدف القوى الغربية نشر الديمقراطية والحرية كما تدعي، بل كانت تدعم الأنظمة التي تضمن ولاءها، حتى لو كانت مستبدة، لأن هذه الأنظمة تعمل على قمع شعوبها، وتمنعها من تحقيق التقدم، وتبقيها في حالة ضعف وخضوع، مما يسهل السيطرة عليها ونهب ثرواتها. - الإعلام والتشويه الثقافي
أصبح الإعلام اليوم واحدًا من أخطر الأسلحة التي تُستخدم ضد الأمة العربية الإسلامية، حيث تم توجيهه لتشويه صورة الإسلام، والترويج لنمط حياة غربي يخالف القيم الإسلامية، فضلًا عن نشر ثقافة الاستهلاك، والانحلال الأخلاقي، والترويج لفكرة أن الإسلام سبب التخلف، بينما الحل يكمن في التخلي عنه والاندماج في الفكر الغربي. - إضعاف الاقتصاد والسيطرة على الموارد
رغم أن الأمة العربية الإسلامية تمتلك ثروات هائلة، إلا أن معظم شعوبها تعاني من الفقر والبطالة والتخلف الاقتصادي، وذلك بسبب سياسات دولية تهدف إلى إبقاء هذه الدول تابعة للقوى الكبرى، غير قادرة على تحقيق استقلالها الاقتصادي، مما يجعلها دائمًا تحت رحمة المساعدات الخارجية، وعرضة للضغوط السياسية.
على مدار العقود الأخيرة، تعرضت العديد من الدول العربية والإسلامية لمخطط مدروس يستهدف تمزيقها وإضعافها، من خلال إشعال الصراعات الداخلية، ودعم الفوضى، وتغذية الانقسامات الطائفية والسياسية، مما أدى إلى انهيار المجتمعات وتدمير مقدراتها. ومن أبرز الدول التي عانت من هذا المخطط:
1- سوريا: الحرب والاستنزاف المستمر
منذ عام 2011، غرقت سوريا في حرب طاحنة بدأت باضطرابات داخلية ثم تحولت إلى صراع دولي معقد، حيث تدخلت قوى إقليمية وعالمية لدعم أطراف مختلفة، مما أدى إلى مقتل مئات الآلاف، وتهجير الملايين داخل وخارج البلاد، وتدمير البنية التحتية بشكل شبه كامل. كما استُخدمت الجماعات المتطرفة والمليشيات المسلحة كأدوات لتمزيق النسيج الاجتماعي، بينما تسعى القوى الكبرى إلى السيطرة على ثروات البلاد وإضعافها عسكريًا واقتصاديًا.
2- اليمن: حرب استنزاف وإبادة بطيئة
يعيش اليمن منذ عام 2015 صراعًا داميًا بين أطراف محلية مدعومة من قوى إقليمية ودولية، مما أدى إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم. تفشى الجوع والأوبئة، وتم تدمير البنية التحتية، بينما يستمر استنزاف البلاد من خلال إطالة أمد الحرب، في ظل تراجع الدور العربي الفاعل لإنهاء الأزمة، مما جعل اليمن ساحة صراع تخدم أجندات خارجية تهدف إلى إبقاء البلاد في حالة ضعف دائم.
3- العراق: من الاحتلال إلى الفوضى المستمرة
بعد الغزو الأمريكي عام 2003، تحول العراق إلى ساحة صراع طائفي وإقليمي، حيث تم حل الجيش الوطني، وانتشرت المليشيات المسلحة، مما أدى إلى انهيار الأمن، وتفكك المجتمع، وسيطرة القوى الخارجية على ثرواته، خاصة النفطية. رغم هزيمة تنظيم داعش، لا يزال العراق يعاني من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، في ظل استمرار التدخلات الخارجية التي تمنع أي مشروع وطني لاستعادة سيادة الدولة.
4- ليبيا: الفوضى وتقسيم النفوذ
منذ الإطاحة بنظام القذافي عام 2011، لم تعرف ليبيا الاستقرار، حيث تحولت إلى ساحة صراع بين حكومات متنازعة، ومليشيات مسلحة، وتدخلات أجنبية متعددة، مما أدى إلى شلل سياسي واقتصادي، وانهيار أمني جعل البلاد مرتعًا لتهريب الأسلحة والمهاجرين. وأصبحت ليبيا نموذجًا واضحًا لسياسة “الفوضى الخلاقة” التي تهدف إلى إبقاء البلاد في حالة تفكك دائم، مما يمنعها من استعادة دورها الإقليمي.
5- السودان: الصراع على السلطة والتقسيم المستمر
يعيش السودان منذ عام 2023 حربًا مدمرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حيث اندلعت المواجهات في أبريل من ذلك العام، وأسفرت عن مقتل آلاف المدنيين، ونزوح الملايين داخل وخارج البلاد. وأدت هذه الحرب إلى انهيار الاقتصاد، وشلل مؤسسات الدولة، وانتشار المجاعة والأمراض، في ظل غياب أي حلول سياسية حقيقية.
لم يكن السودان بعيدًا عن مخططات التقسيم، فقد سبق أن انفصل الجنوب عام 2011، ليصبح دولة مستقلة، بعد سنوات من الصراعات التي دعمتها قوى خارجية لإضعاف السودان والسيطرة على موارده. واليوم، يستمر النزاع في دارفور والمناطق الأخرى، وسط محاولات إضعاف الدولة السودانية ومنعها من تحقيق الاستقرار.
6- الصومال: عقود من الحروب والتدخلات الخارجية
يعد الصومال نموذجًا آخر لمخطط الفوضى المستمرة، حيث دخل في دوامة من الحروب الأهلية منذ انهيار الحكومة المركزية عام 1991. ومنذ ذلك الحين، انقسمت البلاد إلى مناطق متناحرة، وتحولت إلى ساحة صراع بين الجماعات المسلحة، وسط تدخلات أجنبية تعزز الانقسام وتستغل ثروات البلاد.
ورغم محاولات تشكيل حكومة موحدة، لا يزال الصومال يعاني من ضعف الدولة، ووجود جماعات مسلحة مثل حركة الشباب، التي تستغل الفراغ الأمني، إضافة إلى التدخلات العسكرية الأجنبية التي تعرقل أي جهود لتحقيق الاستقرار. كما يعاني الشعب الصومالي من المجاعة والفقر، نتيجة للصراعات المستمرة، والتأثيرات السلبية للمخططات التي تسعى إلى إبقاء البلاد ضعيفة ومقسمة.
استمرار نزيف الأمة العربية والإسلامية بهدف جعلها ممزقة وضعيفة
ما يحدث في سوريا واليمن والعراق وليبيا والسودان والصومال ليس مجرد صراعات داخلية، بل هو جزء من مخطط طويل الأمد يهدف إلى إضعاف الأمة العربية والإسلامية، ومنعها من تحقيق أي نهضة حضارية أو استقلال حقيقي. فقد عملت القوى الكبرى على دعم الفوضى، وإشعال النزاعات، ونهب الثروات، وإضعاف الحكومات، وتأجيج الحروب الأهلية، مما أدى إلى تفكك المجتمعات واستنزاف مواردها، وسط غياب مشروع وحدوي عربي قادر على مواجهة هذه المخاطر.
لكن رغم هذا الواقع المرير، يبقى الأمل معقودًا على وعي الشعوب، واستعادة روح الوحدة والتكاتف، والعمل على إنهاء النزاعات الداخلية، والتصدي للمؤامرات الخارجية، حتى تستعيد الأمة مكانتها وقوتها المفقودة. إن الحل لا يكمن فقط في وقف الحروب، بل في تحقيق استقلال حقيقي بعيدًا عن التدخلات الأجنبية التي لا تسعى إلا إلى استمرار الفوضى ونهب الثروات، وهو ما يستدعي تحركًا جادًا من أبناء الأمة لإعادة بناء مجتمعاتهم على أسس القوة والعدل والتماسك.
أين النخوة؟! عندما كانت الجيوش تُحشد من أجل امرأة
لم يكن حال الأمة العربية الإسلامية دائمًا كما هو عليه اليوم من ضعف وتخاذل، بل كانت هناك أيام كانت فيها كرامة المسلم أغلى من أي شيء، وكانت صرخة امرأة مسلمة كفيلة بتحريك الجيوش، وإعلان الحروب، وإسقاط العروش.
- عندما اعتدى يهودي على امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع، فصرخت مستغيثة، لم يتجاهل رسول الله ﷺ الأمر، بل أعلن الحرب وأجلاهم عن المدينة.
- عندما استنجدت امرأة مسلمة بالخليفة المعتصم، وقالت “وامعتصماه”، لم يتجاهل صرختها، بل قاد جيشًا جرارًا إلى عمورية، أقوى حصون الروم آنذاك، ودكها انتقامًا لها.
- عندما أسر النصارى بعض المسلمات في مملكة نافار، وصرخن “وعامراه”، لم يهدأ الحاجب المنصور حتى قاد جيشه إلى هناك، وحررهن بالقوة، وعاد منتصرًا.
أما اليوم، فقد امتلأت الأراضي العربية والإسلامية بالمآسي، حيث يُعذب النساء والأطفال والشيوخ، وتُهتك الأعراض، وتُستباح الدماء، وتُباد مناطق كاملة مثل غزة، فتُهدم البيوت فوق ساكنيها، وتُسوى المدن بالأرض، ولكن أين الأمة؟ أين القادة؟ أين الجيوش التي كانت تهب لنصرة المستضعفين؟!
هل من سبيل إلى استعادة العزة؟
إن الأمة العربية الإسلامية ليست عاجزة، لكنها تحتاج إلى استيقاظ، تحتاج إلى أن تعي حجم المؤامرات التي تُحاك ضدها، وأن تدرك أن خلاصها ليس في الاستسلام للأعداء، بل في العودة إلى الله، والتمسك بدينها، والعمل على استعادة وحدتها.
- إصلاح الداخل قبل مواجهة الخارج
لا يمكن مواجهة الأعداء في ظل وجود فرقة داخلية، لذلك لا بد من العمل على إصلاح المجتمعات، ونشر الوعي، وتعزيز الروابط بين أبناء الأمة، والتخلص من العصبيات والطائفية، حتى تعود الأمة جسدًا واحدًا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. - إحياء قيم العزة والكرامة
يجب أن تعود للأمة غيرتها، ونخوتها، وشعورها بالمسؤولية تجاه كل مظلوم ومستضعف، وأن تعود ثقافة الانتصار للحق، وعدم السكوت عن الظلم، حتى لا يصبح الاستسلام والتخاذل هو القاعدة. - العمل على نهضة شاملة
النهضة لا تتحقق بالكلام، بل تحتاج إلى عمل، تحتاج إلى جيل مؤمن، مثقف، واعٍ، قادر على بناء المستقبل، وقيادة الأمة نحو عزتها.
إن تفكيك المجتمع العربي الإسلامي لم يكن مجرد صدفة، بل كان نتيجة لمخطط استهدف إضعافه، ولكن هذا لا يعني أن الاستسلام هو الحل، فالأمة التي سادت يومًا ما، والتي قادت الحضارة الإنسانية قرونًا طويلة، قادرة على استعادة أمجادها إذا عادت إلى رشدها، وتمسكت بدينها، وأحيت قيمها الأصيلة، وتعلمت من أخطائها.
فهل ننتظر حتى يضيع كل شيء، أم نبدأ بالعمل من الآن؟!
اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.