احتفالاتٌ وأعياد ؛؛ ميلادُ السيد المسيح .. بين الماديةِ والروح واختلافِ التقويم

عصام التيجي يكتب:

0

من جوفِ المحن تأتي المنح ، ومن قلبِ الأحزان يبحثُ الإنسان عن الأفراح .. هى طبيعةٌ إنسانيةٌ تعشقُ الاحتفالات والأعياد ، خاصةً في مصر التي نسجت من أحزانِها أفراحَهَا منذ أن شق النيلُ العظيم أرضها الخصبة ، “الإله حابي” مصدر الخير والنماء ، الذي يحكي أجملَ أسطورةٍ في التاريخ “عروس النيل” التي يتم ألقاؤها في مياه النهر احتفالاً بعيد “وفاء النيل” كقربانٍ تتزَوجهُ في العالم الآخر .

ربما أسطورة لا يوجدُ لها نصٌ صريح في التاريخ ، لكنها تشير إلى فكرةِ التضحيةِ والوفاءِ والاحتفالِ بالفيضان ، الذي يعتقد المصريونَ القدماء سببه هو دموع إيزيس حزناً على وفاةِ زوجِها أوزوريس .

ليس في مصرَ القديمةِ فحسب وإنما تحتفلُ الكنيسةُ القبطيةُ أيضا بوفاءِ النيل حيث يتمُ ألقاءُ أصبع الشهيد في النهر ، ويُعرف عند الأقباط باسم أصبع الشهيد .

طبيعةٌ إنسانيةٌ في مصر إذن ، يضحكون حتى البكاء ، ويسخرونَ من أحزانِهم فرحاً وضحكاً ، ربما يخشونَ الفرح ويخافونَ منه ، لكنهم دائمو البحثِ عنه ، خاصةً في مناسباتِهم الدينيةِ منذ العصورِ القديمةِ وحتى عصرِنا الحالي .

مواكبُ للآلهة في مصر القديمة ، واحتفالاتٌ دينيةٌ بذكرى ميلادِ الأنبياء ، ومناسباتٌ عظيمةٌ غير دينية في مصرَ الحديثة ، نسج من خيوطِها المصريون أكثرَ من ثلاثةٍ وثلاثينَ احتفالاً في العام ، لتعمَ الأفراح ُ في أرجاءِ المعمورةِ على اختلافِ الدياناتِ والطوائف .

احتفلنا منذ أشهرٍ قليلةٍ بذكرى المولد النبوي الشريف “ميلاد خير البرية النبي الخاتم” صلى الله عليه وسلم ، المناسبة التي ينتظروها المسلمون كل عام ويقِيمونَ لها الاحتفالات المختلفة .

وهذه الأيام تهلُ علينا ذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام ، قصةٌ تُعِيدُ إلى الأذهان حدثاً غريباً بحملِ السيدة مريم العذراء من غير زوجٍ أو أبٍ للنبي عيسى عليه السلام ، وهو حدثٌ عجيب ولكنه ليس أعجب من خلق آدم الذي خُلِقَ من غير أبٍ و أمٍ .

“كما جاء في قوله تعالى”

” إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ”

صدق الله العظيم .

وفي هذه الآية حُجةٌ دامغةٌ شبهت الغريب بما هو أغرب منه ، فلقد شاءت حكمةُ الله أن تشهدَ الإنسانيةَ هذه الولادة العجيبة كي تتفكر من خلالها في قدرةِ الله ، وثمة حكمة ثانية وهي إعادة التوازن الروحي لبني إسرائيل الذين غرقوا في المادية ، فكانت ولادة السيد المسيح “المعجزة والخارقة” إعلاءً لعالمِ الروح .

في الخامسِ والعشرينَ من شهرِ ديسمبر كل عام يحتفلُ مسيحيو الغرب “الكاثوليك” بذكرى ميلاد السيد المسيح ، بينما يحتفلُ به مسيحيو الشرق “الأرثوذكس” في السابعِ من شهر يناير ، وهنا يقفُ الكثيرون في حيرةٍ عن سببِ اختلافِ التوقيت ، على الرغم من أن الذكرى واحدة ، لكن يعود الاختلافُ إلى أن كل الأقباط في العالم كانوا يحتفلون بعيد الميلاد يوم التاسعِ والعشرينَ من شهر كيهك حسب التقويم القبطي ، وكان هذا اليوم يوافق الخامسَ والعشرينَ من شهرِ ديسمبر من كل عام حسب التقويم الروماني ، الذي سمي بعد ذلك بالميلادي ، ولقد تحدد عيد ميلاد المسيح في مجمع نيقية عام 325 ميلادية ، حيث يكون في أطولِ ليلةٍ وأقصرِ نهارٍ فلكياً ، والتي يبدأ بعدها الليلُ القصير والنهارُ الطويل في الزيادة ، ولكن في عام 1582 ميلادية تغير الأمر مع تراكم السنين ، حيث لاحظ علماء الفلك أن يوم 25 ديسمبر “يوم عيد الميلاد” ليس في موضعِه أي لا يقع في أطولِ ليلةٍ وأقصرِ نهارٍ بل وجدوا الفرق عشرة أيام ، حتي يقع في أطولِ ليلٍ وأقصرِ نهارٍ ، وعليه انفصل مسيحيو الشرق “الأرثوذكس” عن مسيحي الغرب”الكاثوليك والبروتستانت” في احتفالاتهم بعيد الميلاد ، حيث أصبح 29 كيهك يوافق يوم 4 يناير في العام 1582 ، ولكي يضبط الفلكيون ذلك النظام وضعوا قاعدة تضمن حذف ثلاثة أيام كل 400 سنة ، لأن هذا الفرق بين التقويمين يؤدي إلى زيادة يوماً كاملاً كل 128 سنة ، وبذلك زاد الفرق بين الاحتفالين ، فأصبح الآن يفصل بينهما 13 يوماً ، وأصبح 29 كيهك يوافق 7 يناير من كل عام ، وسيظل هكذا حتى عام 2094 ميلادية ، حينها سيوافق الاحتفال بعيد الميلاد المجيد يوم 8 يناير .

ثمة اختلاطٍ أيضاً يقعُ فيه الكثيرُ من الناس وهو الفارق بين الاحتفالِ برأسِ السنةِ الميلاديةِ وأعياد الكريسماس ، الذي يعتقد البعض أن كلتا المناسبتين مناسبة واحدة لاقتراب توقيتهما ، لكن الحقيقةَ على عكسِ ذلك ، فعيدُ الكريسماس هو عيدٌ ديني يحتفلُ به المسيحيونَ بميلادِ السيد المسيح بإقامةِ العزائمِ والتجمعاتِ وتقديمِ الهدايا وتبادلِ التهاني .

أما رأسُ السنةِ الميلادية فهو احتفالٌ غير ديني ببدايةِ العامِ الجديد في الأول من يناير ، ويتمُ الاحتفالُ به ليلةَ رأسِ السنة في الحادي والثلاثينَ من ديسمبر حتي الساعات الأولى من بدايةِ العامِ الجديد الأول من يناير .

أعيادٌ واحتفالاتٌ دينيةٌ وغير دينيةٍ تعيشُها مصرُ منذ العصورِ القديمةِ وحتى عصرِنا الحديث ، تصلُ إلى ثلاثةٍ وثلاثينَ عيداً وتزيد ، ميزت مصرَ عن غيرِها دونِ سائرِ الدول ، ليعيشَ مواطنوها في سلامٍ روحي وأفراحٍ مختلفةِ الألوان والأشكال ، لتؤكد أنها بلدُ الأمنِ والأمان ، ومهبطُ الرسلِ والأديان ، والتعايشِ بين الطوائفِ مختلفةِ الملل في كلِ مكان .

وكما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز :

“ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ” .

ويقول في محكم آياته أيضاً :

“اهبطوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ” .

كل عام ومصرُ دائماً في أعيادٍ واحتفالات ، ومسيحيو مصرَ والعالم في خيرٍ وسعادة ، وعام ميلادي جديد يحمل الحب والتفاؤل والأمل بالله في حياة أفضل للجميع بإذنه تعالى .

بقلم / عصام التيجي


اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات في بريدك الإلكتروني.

اترك رد

اكتشاف المزيد من الاتحاد الدولى للصحافة العربية

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading